هو
جندب بن جنادة من غفار ، قبيلة لها باع طويل في قطع الطريق ، فأهلها
مضرب
الأمثال في السطو غير المشروع ، انهم حلفاء الليل ، والويل لمن يقع
في
أيدي أحد من غفار ... ولكن شاء المولى أن ينير لهذه القبيلة دربها بدأ
من
أبي ذر -رضي الله عنه- ، فهو ذو بصيرة ، و ممن يتألهون في الجاهلية
ويتمردون
على عبادة الأصنام ، ويذهبون الى الايمان باله خالق عظيم ، فما
أن سمع
عن الدين الجديد حتى شد الرحال الى مكة ...
اسلامه
ودخل أبو ذر -رضي الله
عنه- مكة متنكرا ، يتسمع الى أخبار أهلها والدين الجديد ، حتى وجد الرسول
-صلى الله عليه وسلم- في صباح أحد الأيام جالسا ، فاقترب منه وقال نعمت صباحا يا أخا العرب ) ... فأجاب الرسول وعليك السلام يا أخاه ) ... قال أبوذر
أنشدني مما تقول ) ... فأجاب الرسول
ما هو بشعر فأنشدك ، ولكنه قرآن كريم ) ... قال أبوذر
اقرأ علي ) ... فقرأ عليه وهو يصغي، ولم يمض غير وقت قليل حتى هتف أبو ذر أشهد أن لا اله الا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله )
... وسأله النبي -صلى الله عليه وسلم-
ممن أنت يا أخا العرب ) ... فأجابه أبوذر
من غفار ) ... وتألقت ابتسامة واسعة على فم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ،
واكتسى وجهه بالدهشة والعجب ، وضحك أبو ذر فهو يعرف سر العجب في وجه
الرسول الكريم ، فهو من قبيلة غفار ... أفيجيء منهم اليوم من يسلم ؟! ...
وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-
ان الله يهدي من يشاء ) ... أسلم أبو ذر من فوره ، وكان ترتيبه في
المسلمين الخامس أو السادس ، فقد أسلم في الساعات الأولى للاسلام ...
تمرده على الباطل
وكان أبو ذر -رضي الله عنه- يحمل
طبيعة متمردة ، فتوجه للرسول -صلى الله عليه وسلم- فور اسلامه بسؤال يا رسول الله ، بم تأمرني ؟) ... فأجابه الرسول ترجع الى قومك حتى يبلغك أمري ) ... فقال أبو ذر والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالاسلام في المسجد ) ...
هنالك دخل المسجد الحرام ونادى بأعلى صوته
أشهد أن لا اله الا الله ... وأشهد أن محمدا رسول الله ) ... كانت هذه
الصيحة أول صيحة تهز قريشا ، من رجل غريب ليس له في مكة نسبا ولا حمى ،
فأحاط به الكافرون وضربوه حتى صرعوه ، وأنقذه العباس عم النبي بالحيلة فقد
حذر الكافرين من قبيلته اذا علمت ، فقد تقطع عليهم طريق تجارتهم ، لذا تركه
المشركين ، ولا يكاد يمضي يوما آخر حتى يرى أبو ذر -رضي الله عنه- امرأتين
تطوفان بالصنمين ( أساف ونائلة ) وتدعوانهما ، فيقف مسفها مهينا للصنمين ،
فتصرخ المرأتان ، ويهرول الرجال اليهما ، فيضربونه حتى يفقد وعيه ، ثم
يفيق ليصيح -رضي الله عنه- مرة أخرى
أشهد أن لا اله الا الله ... وأشهد أن محمدا رسول الله ) ...
اسلام غفار
ويعود -رضي الله عنه- الى قبيلته ،
فيحدثهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن الدين الجديد ، وما يدعو له
من مكارم الأخلاق ، فيدخل قومه بالاسلام ، ثم يتوجه الى قبيلة ( أسلم )
فيرشدها الى الحق وتسلم ، ومضت الأيام وهاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم-
الى المدينة ، واذا بموكب كبير يقبل على المدينة مكبرا ، فاذا هو أبو ذر
-رضي الله عنه- أقبل ومعه قبيلتي غفار و أسلم ، فازداد الرسول -صلى الله
عليه وسلم- عجبا ودهشة ، ونظر اليهم وقال
غفار غفر الله له ... وأسلم سالمها الله ) ... وأبو ذر كان له تحية مباركة
من الرسول الكريم حيث قال
ماأقلت الغبراء ، ولا أظلت الخضراء ،أصدق لهجة من أبي ذر ) ...
غزوة تبوك
وفي غزوة تبوك سنة 9 هجري ، كانت أيام
عسرة وقيظ ، خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحبه ، وكلما مشوا ازدادوا
تعبا ومشقة ، فتلفت الرسول الكريم فلم يجد أبا ذر فسأل عنه ، فأجابوه لقد تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره ) ... فقال الرسول -صلى الله
عليه وسلم-
دعوه ، فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وان يك غير ذلك فقد أراحكم الله
منه ) ... وفي الغداة ، وضع المسلمون رحالهم ليستريحوا ، فأبصر أحدهم رجل
يمشي وحده ، فأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، فقال الرسول كن أبا ذر ) ... وأخذ الرجل بالاقتراب فاذا هو أبو ذر -رضي
الله عنه- يمشي صوب النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فلم يكد يراه الرسول -صلى
الله عليه وسلم- حتى قال
يرحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده ) ...
وصية الرسول له
ألقى الرسول -صلى الله عليه وسلم-
على أبا ذر في يوم سؤال
يا أبا ذر ، كيف أنت اذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء ) ... فأجاب قائلا اذا والذي بعثك بالحق ، لأضربن بسيفي ) ... فقال له الرسول
-صلى الله عليه وسلم- ( أفلا أدلك على خير من ذلك ؟ ... اصبر حتى تلقاني )
... وحفظ أبو ذر وصية الرسول الغالية فلن يحمل السيف بوجوه الأمراء الذين
يثرون من مال الأمة ، وانما سيحمل في الحق لسانه البتار ...
جهاده بلسانه
ومضى عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-
ومن بعده عهد أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- ، في تفوق كامل على مغريات
الحياة وفتنتها ، وجاء عصر عثمان -رضي الله عنه- وبدأ يظهر التطلع الى
مفاتن الدنيا ومغرياتها ، وتصبح السلطة وسيلة للسيطرة والثراء والترف ، رأى
أبو ذر ذلك فمد يده الى سيفه ليواجه المجتمع الجديد ، لكن سرعان ما فطن
الى وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :" وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا
الا خطأ " ... فكان لابد هنا من الكلمة الصادقة الأمينة ، فليس هناك أصدق
من أبي ذر لهجة ، وخرج أبو ذر الى معاقل السلطة والثروة معترضا على ضلالها ،
وأصبح الراية التي يلتف حولها الجماهير والكادحين ، وذاع صيته وهتافه
يردده الناس أجمعين
بشر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم
وجنوبهم يوم القيامة ) ...
وبدأ أبو ذر بالشام ، أكبر المعاقل سيطرة
ورهبة ، هناك حيث معاوية بن أبي سفيان وجد أبو ذر -رضي الله عنه- فقر وضيق
في جانب ، وقصور وضياع في الجانب الآخر ، فصاح بأعلى صوته عجبت لمن لا يجد القوت في بيته ، كيف لا يخرج على الناس
شاهرا سيفه ) ... ثم ذكر وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- بوضع الأناة
مكان الانقلاب ، فيعود الى منطق الاقناع والحجة ، ويعلم الناس بأنهم جميعا
سواسية كأسنان المشط ، جميعا شركاء بالرزق ، الى أن وقف أمام معاوية يسائله
كما أخبره الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غير خوف ولا مداراة ، ويصيح به
وبمن معه
أفأنتم الذين نزل القرآن على الرسول وهو بين ظهرانيهم ؟؟) ... ويجيب عنهم نعم أنتم الذين نزل فيكم القرآن ، وشهدتم مع الرسول
المشاهد)، ويعود بالسؤال
أولا تجدون في كتاب الله هذه الآية :" ...
والذين يكنزون الذهب والفضة
ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ... يوم يحمى عليها في نار
جهنم ، فتكوى بها جباههم ، وجنوبهم ، وظهورهم ، هذا ما كنزتم لأنفسكم ،
فذوقوا ما كنتم تكنزون " ...
فيقول معاوية لقد
أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب ) ... فيصيح أبو ذر
ل ... بل أنزلت لنا ولهم ) ... ويستشعر معاوية الخطر من أبي ذر فيرسل الى
الخليفة عثمان -رضي الله عنه-
ان أبا ذر قد أفسد الناس بالشام ) ... فيكتب عثمان الى أبي ذر يستدعيه ،
فيودع الشام ويعود الى المدينة ، ويقول للخليفة بعد حوار طويل لا حاجة لي في دنياكم ) ... وطلب الاذن بالخروج الى ( الربذة
) ... وهناك طالبه البعض برفع راية الثورة ضد الخليفة ولكنه زجرهم قائلا والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة ، أو جبل، لسمعت
وأطعت ، وصبرت واحتسبت ، ورأيت ذلك خيرا لي ) ...
فأبو ذر لا يريد
الدنيا ، بل لا يتمنى الامارة لأصحاب رسول الله ليظلوا روادا للهدى ...
لقيه يوما أبو موسى الأشعري ففتح له ذراعيه يريد ضمه فقال له أبو ذر لست أخيك ، انما كنت أخيك قبل أن تكون واليا وأميرا ) ...
كما لقيه يوما أبو هريرة واحتضنه مرحبا ، فأزاحه عنه وقال اليك عني ، ألست الذي وليت الامارة ، فتطاولت في البنيان ،
واتخذت لك ماشية وزرعا ) ... وعرضت عليه امارة العراق فقال لا والله ... لن تميلوا علي بدنياكم أبدا ) ...
اقتدائه بالرسول
عاش أبو ذر -رضي الله عنه- مقتديا
بالرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو يقول
أوصاني خليلي بسبع ، أمرني بحب المساكين والدنو منهم ، وأمرني أن أنظر الى
من هو دوني ولا أنظر الى من هو فوقي ، وأمرني ألا أسأل أحدا شيئا ، وأمرني
أن أصل الرحم ، وأمرني أن أقول الحق ولو كان مرا ، وأمرني ألا أخاف في
الله لومة لائم ، وأمرني أن أكثر من : لاحول ولا قوة الا بالله ) ... وعاش
على هذه الوصية ، ويقول الامام علي - رضي الله عنه -
لم يبق اليوم أحد لايبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر ) ...
وكان
يقول أبو ذر لمانعيه عن الفتوى
والذي نفسي بيده ، لو وضعتم السيف فوق عنقي ، ثم ظننت أني منفذ كلمة
سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن تحتزوا لأنفذتها ) ...
ورآه صاحبه يوما يرتدي جلبابا قديما فقال له
أليس لك ثوب غير هذا ؟ ... لقد رأيت معك منذ أيام ثوبين جديدين ؟) ...
فأجابه أبو ذر
يا بن أخي ، لقد أعطيتهما من هو أحوج اليهما مني ) ... قال له والله انك لمحتاج اليهما ) ... فأجاب أبو ذر اللهم غفرا انك لمعظم للدنيا ، ألست ترى علي هذه البردة ،
ولي أخرى لصلاة الجمعة، ولي عنزة أحلبها، وأتان أركبها، فأي نعمة أفضل مما
نحن فيه؟) ...
وفاته
في ( الربذة )
جاءت سكرات الموت لأبي ذر الغفاري ، وبجواره زوجته تبكي ، فيسألها فيم البكاء والموت حق ؟) ... فتجيبه بأنها تبكي لأنك تموت ، وليس عندي ثوب يسعك كفنا !) ... فيبتسم ويطمئنها
ويقول لها
لا تبكي ، فاني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وأنا عنده في
نفر من أصحابه يقول :" ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض ، تشهده عصابة من
المؤمنين " ... وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ، ولم يبق
منهم غيري ، وهأنذا بالفلاة أموت ، فراقبي الطريق فستطلع علينا عصابة من
المؤمنين ، فاني والله ما كذبت ولا كذبت ) ... وفاضت روحه الى الله ، وصدق
... فهذه جماعة مؤمنة تأتي وعلى رأسها عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- فما أن يرى وجه أبي ذر حتى تفيض عيناه بالدمع ويقول صدق رسول الله ، تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ) ...
وبدأ يقص على صحبه قصة هذه العبارة التي قيلت في غزوة تبوك كما سبق ذكره
...