خصصت تحية المسجد بمبحث مستقل لأهميتها ، ولأتحدث عما يتعلق بها من مسائل على حدة ؛ وذلك في المسائل التالية : -
المسألة الأولى : حكم تحية المسجد :
المراد بتحية المسجد هما الركعتان اللتان يصليهما داخل المسجد قبل أن يجلس ، والذي يدخل مسجدا فيه جماعة يشرع له ثلاث تحيات ، يدعو عند دخوله بالدعاء المأثور ، ثم يصلي ركعتين ، ثم يسلم على من في المسجد ممن حوله .
واختلف في تحية المسجد على قولين : -
القول الأول : أنها سنة . قال النووي : " إنها سنة بإجماع المسلمين " (1) .
وقال ابن حجر : " اتفق أئمة الفتوى على أن الأمر للندب في ذلك " (2) .
القول الثاني : أنها واجبة . حكى هذا القول عن الظاهرية النووي وابن حجر وابن رشد (3) ، ونصره الشوكاني (4) .
الأدلة :
أدلة القول الأول : عن أبي قتادة (5) - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين » . رواه البخاري (6) . ولهما عنه : « إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين » . وفي رواية لمسلم : « فليركع ركعتين قبل أن يجلس » (7) .
_________
(1) شرح النووي على مسلم ( 2 / 365 ) ، والمجموع للنووي ( 2 / 281 ) .
(2) فتح الباري لابن حجر ( 1 / 537 ) .
(3) شرح النووي على مسلم ( 2 / 365 ) ، وفتح الباري ( 1 / 537 ) ، وبداية المجتهد ( 1 / 208 ) .
(4) نيل الأوطار للشوكاني ( 3 / 347 ) .
(5) هو : أبو قتادة ربعي الأنصاري السلمي ، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد أحدًا والحديبية . وله عدة أحاديث . مات وهو ابن سبعين سنة ، وكأنه ابن خمس عشرة سنة . / انظر : سير أعلام النبلاء ( 2 / 449 ) ، وتهذيب التهذيب ( 12 / 204 ) ، والإصابة ( 11 / 302 ) .
(6) البخاري ك التهجد . ما جاء في التطوع مثنى . رقم 1163 ، وانظر : فتح الباري لابن حجر ( 1 / 537 ، 3 / 48 ) .
(7) البخاري ك الصلاة ب 60 إذا دخل المسجد فليركع ركعتين . رقم 444 ، ومسلم ( 1 / 495 ) رقم 714 ، وانظر : شرح النووي على مسلم ( 2 / 365 ) .
الشاهد : قوله : " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين . . . يركع ركعتين . . . فليركع . . . " .
وجه الدلالة :
أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى من يدخل المسجد أن يجلس قبل أن يركع ركعتين . وأصل أمره - صلى الله عليه وسلم - للوجوب ، لكن صرفه عن الوجوب القرائن التالية : -
1 - « جاء ضمام (1) بن ثعلبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ماذا فرض الله علي من الصلاة ؟ . قال : " الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئا » . متفق عليه (2) .
فقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن الله - سبحانه وتعالى - لم يفرض على المسلمين إلا الصلوات الخمس من الصلوات كلها ؛ فدل على أن ما عدا الصلوات الخمس سنة ، وتحية المسجد منها ، فأمره فيها للندب .
2 - عن زيد بن أسلم (3) قال : كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون ، ورأيت ابن عمر يفعله . وعن الشعبي وسويد بن غفلة وسالم مثله . رواها ابن أبي شيبة . وحكى البغوي : أن ابن سيرين وعطاء بن أبي رباح (4) والنخعي وقتادة ، وجماعة من السلف : لا يرون حرجا على من جلس ولم يصل ركعتي تحية المسجد (5) .
أدلة القول الثاني :
_________
(1) هو : ضمام بن ثعلبة السعدي ، قال فيه عمر : ما رأيت أحدًا أحسن مسألة ، ولا أوجز من ضمام بن ثعلبة ، قدم سنة تسع للهجرة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ذهب إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا من يومهم ؛ لأنه كان مطاعًا . قال ابن عباس : فما سمعنا بوفد قط كان أفضل منه . انظر : الإصابة ( 2 / 210 ) ، والاستيعاب لابن عبد البر ( 2 / 314 ) .
(2) البخاري ك الإيمان ، ك الزكاة ب1 وجوب الزكاة ، وصحيح مسلم ( 1 / 41 ) رقم 12 .
(3) هو : زيد بن أسلم أبو عبد الله العدوي العمري ، حدث عن والده أسلم مولى عمر ، وعن عبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وغيرهم . وحدث عنه : مالك والثوري والأوزاعي ، وغيرهم . وكان له حلقة للعلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي سنة 136 هـ / انظر : سير أعلام النبلاء ( 5 / 316 ) ، وتهذيب التهذيب ( 3 / 395 ) ، وشذرات الذهب ( 1 / 194 ) .
(4) هو : عطاء بن أبي رباح أبو محمد ، مفتي الحرم . حدث عن عائشة وأم سلمة وأم هانئ وأبي هريرة وابن عباس . وعنه : مجاهد وعروة وعبيد بن عمير وأبو الزبير والزهري وقتادة ، فاق عطاء أهل مكة في الفتيا ، عاش 88 سنة ومات سنة 114 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء ( 5 / 78 ) ،وطبقات ابن سعد ( 5 / 467 ) .
(5) المصنف لابن أبي شيبة ( 1 / 341 ) ، وشرح السنة للبغوي ( 2 / 366 ) ، وانظر : حاشية ابن عابدين ( 1 / 375 ) ، وحاشية الدسوقي ( 1 / 314 ) .
استدل الظاهرية بأن الأمر للوجوب ، وليس هناك قرينة صارفة له ، ويشهد له ويقويه - أيضا - الحديث التالي : -
" عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : « كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما قال : " أدخلت المسجد ؟ " . قلت : نعم . قال : " أصليت فيه ؟ " . قلت : لا . قال : " فاذهب فاركع ركعتين » . رواه ابن خزيمة (1) .
الشاهد : قوله : " فاركع ركعتين " .
وجه الدلالة :
حيث أمر - صلى الله عليه وسلم - الذي جلس في المسجد ولم يؤد تحية المسجد ، أمره بأن يذهب ويؤديها ، وكذلك أمر سليكا الغطفاني (2) حين دخل وهو يخطب بصلاة الركعتين ؛ فدل هذا على الوجوب .
المناقشة :
ناقش الذين أوجبوا تحية المسجد الجمهور : بأن ما ذهب إليه بعض السلف من ترك التحية قد حصل له معارض ممن كان يؤدي التحية ، فقد روي عن أبي ذر وعمار وعكرمة : أنهم يصلون تحية المسجد (3) .
فصارت هذه الآثار متعارضة فسقط الاستدلال بها ، وبقي حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدال على الوجوب ؛ إذ القرائن قد تعارضت فسقط الاحتجاج بها . ويجاب : بأن التعارض منتف ؛ لان هؤلاء فعلوا سنة ، وأولئك تركوها ، ولا حرج في ترك السنة . وأما حديث ابن خزيمة فهو ضعيف (4) .
_________
(1) صحيح ابن خزيمة ( 3 / 163 ) .
(2) هو : سليك بن عمر أو هدية الغطفاني ، صحابي جليل ، انظر : الإصابة ( 2 / 72 ) ، والاستيعاب ( 2 / 128 ) ط : الأولى .
(3) المصنف لابن أبي شيبة ( 1 / 340 ) ، وعون المعبود ( 2 / 133 ) ، وتحفة الأحوذي ( 2 / 255 ) .
(4) حديث ابن خزيمة الذي رواه في صحيحه ضعيف ؛ لأن في سنده الربيع بن سليمان ، وابن وهب ، وأسامة متكلم فيهم
. والذي أختاره للمؤمن : ألا يدع تحية المسجد ، إلا لمصلحة ظاهرة ، كالبيان ، أو لإشغال الوقت بإلقاء الحديث على جماعة المسجد قبل الصلاة . لأن الراجح أن تحية المسجد سنة وليست واجبة .