تكلم العلماء - رحمهم الله تعالي - عن حكم صلاة الجماعة (1) ، وذكروا أن من استمر على تركها في المسجد فهو آثم (2) .
أما حكم أدائها في المسجد ، فقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن صلاة الجماعة بالمسجد سنة . وبهذا قال الأحناف (3) . والمالكية (4) ، وهو أحد الوجهين عند الشافعية (5) ، ورواية عن الإمام أحمد (6) .
القول الثاني : أن صلاة الجماعة بالمساجد فرض عين على من تجب عليه ، قال به أحمد في رواية عنه ، واختارها جماعة من أصحابه ، منهم ابن تيمية (7) .
القول الثالث : أن فعلها في المسجد فرض كفاية . قال به بعض الشافعية (
.
الأدلة :
استدل القائلون : بأنها سنة في المسجد ، وأن للمسلم أن يصليها في بيته جماعة ، بما يلي :
_________
(1) اختلف العلماء في حكم صلاة الجماعة على أربعة أقوال : القول الأول : أنها فرض عين . وبه قال عطاء والأوزاعي وأحمد وأبو ثور ، وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان . القول الثاني : أنها شرط لصحة الصلاة ، تبطل الصلاة بدونها ، وبه قال داود الظاهري ، ورواية عن أحمد ، واختاره ابن تيمية وابن عقيل من الحنابلة . القول الثالث : أنها فرض كفاية . وبه قال الشافعي ، وكثير من الحنفية والمالكية . القول الرابع : أنها سنة . وبه قالت الحنفية والمالكية . قلت : وأدلتهم مفصلة في مواقعها ، ولكن حديث المفاضلة بين صلاة الفرد في بيته وبين صلاة الجماعة دليل على صحة صلاة من صلى في بيته . وقال ابن القيم : إن الخلاف بينهم لفظي . / انظر : المحلى ( 4 / 188 ) ، والأم ( 1 / 154 ) ، وأحكام الصلاة لابن القيم ( ص109 ) ، وأحكام القرآن للجصاص ( 3 / 31 ) ، والفتاوى لابن تيمية ( 23 / 226 ) ، وفتح الباري ( 2 / 126ـ 137 ) .
(2) انظر : المبسوط ( 1 / 1 / 136 ) ، وبداية المجتهد ( 1 / 142 ) .
(3) انظر : المبسوط ( 1 / 1 / 136 ) ، وأحكام القرآن للجصاص ( 1 / 31 ) .
(4) انظر : جواهر الإكليل ( 1 / 76 ) .
(5) انظر : المجموع للنووي ( 4 / 235 ) .
(6) انظر : الإنصاف للمرداوي ( 2 / 210 ) .
(7) الاختيارات لابن تيمية ( ص67ـ 69 ) .
(
انظر : مغني المحتاج ( 1 / 229ـ 231 ) .
- « عن يزيد بن الأسود (1) ، قال : " شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجته ، فصليت معه الصبح في مسجد الخيف ، فلما قضى صلاته انحرف ، فإذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا ، قال : علي بهما " . فجيء بهما ترعد فرائصهما . قال : ما منعكما أن تصليا معنا ؟ " . فقالا : يا رسول الله : قد صلينا في رحالنا . قال : " فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم ، فإنها لكما نافلة » . رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وإسناده صحيح (2) .
الشاهد : " فإنها لكما نافلة " .
وجه الدلالة :
حيث بين - صلى الله عليه وسلم - أن صلاتهما في رحالهما أجزأت عنهما ، وبين أن عليهما إذا دخلا المسجد أن يصليا مع الجماعة نافلة .
2 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : « كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقا ، فربما حضرت الصلاة وهو في بيتنا ، فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح (3) ثم يقوم - صلى الله عليه وسلم - ونقوم خلفه فيصلي بنا » . متفق عليه . وهذا لفظ مسلم (4) .
الشاهد : قوله : " حضرت الصلاة وهو في بيتنا " .
وجه الدلالة :
_________
(1) هو : يزيد بن الأسود الجرشي . يسكن بالغوطة بقرية زبدين ، أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ذكر الذهبي له كرامات ، ولم يذكر ولادته ولا وفاته . انظر : سير أعلام النبلاء ( 4 / 136 ) ، وطبقات ابن سعد ( 7 / 444 ) ، والبداية والنهاية ( 8 / 324 ) .
(2) أبو داود ك الصلاة رقم 575 ، والترمذي ك الصلاة رقم 219 ، والنسائي ( 2 / 114 ) .
(3) ينضح : أي يرش بالماء لتنظيفه وتطهيره . / انظر : مختار الصحاح ( ص664 ) .
(4) البخاري ك الصلاة ب 20 الصلاة على الحصير رقم 380 ، وصحيح مسلم ( 1 / 457 ) رقم 659 ، وانظر : فتح الباري ( 1 / 488 ) .
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيت أنس بن مالك - كما ذكر أنس - وهذا يدل على صحة صلاة الفريضة جماعة بالبيت ، وأن إيقاعها بالمسجد سنة ، وليس واجبا .
3 - ولهم أدلة كثيرة ، أهمها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : « صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة » . وفي رواية : « بخمس وعشرين درجة » . متفق عليه (1) .
الشاهد : قوله : « صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد » .
وجه الدلالة :
أن صلاة المنفرد تفضلها صلاة الجماعة بسبع وعشرين درجة مطلقا ؛ سواء كانت بمسجد أو بيت أو نحوه ؛ مما يدل على أنها في المسجد سنة ، وأن إيقاعها بالبيت صحيح ؛ ولأنه لما صحت صلاة المنفرد في بيته بهذا النص ، فإن صلاة الجماعة تفضلها بهذا النص - أيضا - سواء كانت في البيت أوفي المسجد .
- « وعن محجن (3) - رضي الله عنه - أنه كان في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - فأذن بالصلاة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى ورجع ، ومحجن في مجلسه . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما منعك أن تصلي مع الناس ألست برجل مسلم ؟ " . قال : بلى يا رسول الله . ولكني كنت قد صليت في أهلي .
فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا جئت المسجد وكنت قد صليت فأقيمت الصلاة فصل مع الناس ، وإن كنت قد صليت » . رواه مالك في الموطأ والنسائي (1) .
الشاهد : " إذا جئت المسجد . . . فصل مع الناس وإن كنت قد صليت " .
وجه الدلالة :
أن هذا الحديث صريح في وجوب إعادة الصلاة مع الجماعة لمن دخل المسجد وهم يصلون .
واستدل أصحاب القول الثاني بأدلة الفريق الأول ، وقالوا : إن أمره - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحاديث للندب ؛ بدليل أنه لم يأمر محجنا ولا الرجلين بإعادة الصلاة ، ولم يعاقبهما على ترك الإعادة . والواجب هو ما توعد تاركه بالعقاب (2) . واستدلوا على استثناء المغرب بقوله - صلى الله عليه وسلم - : « لا وتران في ليلة » . قال في منتقى الأخبار : " متفق عليه " . (3) وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : « صلاة الليل مثنى مثنى » . متفق عليه (4) .
فهذان الحديثان يدلان على أن المغرب لا تعاد ؛ لأنها وتر ؛ ولأن إعادتها نافلة تكون في الليل ، وهي ثلاث ، وقد ثبت في الحديث : « أن صلاة الليل مثنى مثنى » .
_________
(1) الموطأ ( 1 / 132 ) ك صلاة الجماعة ب إعادة الصلاة مع الإمام . النسائي ( 2 / 112 ) ، ورواه أحمد في مسنده ( 4 / 34 ) ، والحاكم في مستدركه ( 1 / 244 ) . وإسناده صحيح .
(2) انظر : روضة الناظر لابن قدامة ( 2 / 27 ـ 34 ) .
(3) منتقى الأخبار مع نيل الأوطار ( 3 / 49 ) ، قد بحثت عنه بهذا النص عند الشيخين فلم أعثر عليه .
(4) البخاري ك الوتر ب1 ما جاء في الوتر رقم 990 ، وصحيح مسلم ( 1 / 516 ) رقم 749 ، وانظر : منتقى الأخبار ( 3 / 34 ) .